الخميس، 17 مايو 2018

الغولة: أصل الحكاية


الغولة في سيرتها الأولى 

في بدايات القرن الماضي كانت كل أم مصرية تحمل في جعبتها ترسانة مما  يعرف بأدوات التقويم، و تحبكها بطابور  من الشخصيات الهلامية لتأهيلها و تسليحها أثناء معركة《تربية و تعليم》أولادها، و التي تلعب فيها دور 《 القائد العام》بلا منازع. ولعل من أهم تلك الأدوات الشخصيات الخرافية التي تلوح بها الأم في أوقات المعارك الضارية، بسبب المساس بالنظام العام للبيت أو الإهمال في الواجبات الدراسية أو عدم الاكتراث بآداب المائدة، فهناك (( أبو رجل مسلوخة)) و ((النداهة)) ولكن تبقى (( أمنا الغولة)) هي الشخصية التي تأتي في الصادرة، و تعبر مرجعية التخويف و إرهاب الطفل بغرض الطاعة و الالتزام.

وهم له أصول

حتى وقت قريب كنت أتخيل (( أمنا الغولة)) شخصية وهمية ليس لها أصل ولا جذور في أعماق تاريخنا، حتى إنني ذهبت لإلقاء نظرة على قاموس اللغة العربية ووجدت أن (( الغولة)) هي كلمة عربية معناها (( نوع من أنواع الشياطين يظهر للناس في الفلاة وتتلون لهم في صور شتى))، ولكن في نهاية العام 2009 كنت أقود مجموعة عمل المجلس الأعلى للآثار  للاحتفال بمرور 40 عاما من التعاون بين (( مصر)) و  ((فرنسا)) من أجل الحفاظ على أحد أهم آثار البشرية، وهو معبد ((الكرنك))، ووقع في يدي كتاب قديم للأثري الفرنسي (( أوجست مارييت))   Auguste   Mariette بعنوان (( أنقاض و أجواء)) يحكي في ذكرياته مع عمال الحفائر في بداية القرن العشرين. و مع خلال سطور الكتاب الفرنسي الشيق، استوقفتني قصة عارضة رواها (( مارييت)) عن شيخ الغفر (( الريس محمود)) و خلافه مع العمال؛ بسبب عدم طاعتهم له في الانتقال  للجهة الشمالية لمعبد (( الكرنك)) لعمل حفائر أثرية وفقا لتعليماته،  وذلك بحجة وجود (( غولة)). فضحت و أعدت القراءة مرة و مرتين، وهنا تحسست ملامح (( أمنا الغولة)) التي طالما اتقيت شرها في طفولتي عندما كنت أعاند أمي و أبي، فامتلأ وجداني بأحاسيس متداخلة من الخوف الذي تعودت مداركي   علية عند رنة اسمها في أذني، و الدهشة لهذه المصادفة السعيدة التي سمحت لي أخيرا باقتفاء أثر هذه الشخصية التي يصعب على العامة معرفة أصلها و فصلها.

الإلهة سخمت  


بالعودة للشجار بين شيخ الغفر 《الريس محمود》و عماله، يحكي ((مارييت))  بأسلوبه الفرنسي الساخر أن العمال رفضوا رفضا باتا الانتقال إلى حقل الحفائر الأثرية تجاه الشمال، حيث المقصورة التي تحتوي على تمثال الإلهة (( سخمت)) Sekhmet ذات الملامح الحادة و المقترنة بالقوة و البطش في الحضارة المصرية القديمة، فغضب ((الريس محمود))، و قال: (( ده مسموش كلام.. غولة إيه بس و كلام فارغ إيه؟ قال إيه.. غولة بتاكل العيال)).
وقف ((مارييت)) عند هذا التعليق، وختم هذه القصة العارضة دون أن يفهم سبب غضب العمال و خوفهم من تلك (( الغولة ))، و كذلك استنكار ((الريس محمود)) لهذا التصرف، فمن هي تلك ((الغولة)) التي قلبت حال الدنيا، و أشاعت الذعر و الفرقة بين هؤلاء الرجال الأشداء؟

حكاية قديمة

في مساء ذلك اليوم ذهب (( الريس محمود )) إلى ((مارييت)) وجلس معه ليعتذر له عما حدث صباحا من العمال، و استرسل ليحكي بهدوء - وهو يقوم بعمل الشاي ل(( مارييت)) - هذه ((الحكاية الفارغة)) كما وصفها، رغم أنه لا يزال مستاء لفرار العمال خوفا من ((الغولة))، فقال: (( حدثت  الحكاية منذ فترة طويلة فقد كان هناك أحد الأجانب الذين اعتادوا في السنوات الأخيرة زيارة (( الكرنك)) والتجول في الخرائب الأثرية بحثا عن قطعة فنية أو قلادة ذهبية أو حتى عملة معدنية قديمة، فقد كان يريد أن يصبح أحد المستكشفين  الذين يخلد التاريخ اسمهم، وعندما تعب جلس يرتكز على جدار  أثري ناحية المقصورة، و كانت تلك المقصورة تحتوى على تمثال الإلهة  ((سخمت)) و أخذ يتأمل من حوله هذا الفضاء الممتد و يستمتع بزخات المطر الشتوي الخفيف الذي راح يذكره بالريف الأوربي حيث أصولة الغربية)).
فقاطعه (( مارييت )) قائلا:((و ما علاقة الأجنبي بالغولة؟)).
فيكمل الريس محمود الحكاية قائلا: ((سأخبرك، لما تأهب الأجنبي للمغادرة، هب واقفا لإلقاء نظرة أخيرة على هذا المكان الساحر، و إذا بكوم الرديم المرتكز على الجدار الأثري التصدع ينهار من تحت قدميه، فهو و ارتطم وجهه بالأرض، و المشكلة ليست في الأجنبي،  ولكن في  أحد الأطفال الذي كان يعتقد أنه يمكن أن يرى الأجنبي يكتشف شيئا ثمينا؛ لذلك تتبعه خطوة بخطوة دون أن يراه، ولما تهدم جدار المعبد كان ذلك الطفل المسمى ((حسن)) يقف بالقرب منه، ودوت صرخات ((حسن)) تشق السكون مستغيثا بأمه التي سمعته من بعيد، تركت والدة ((حسن)) ما بيدها بسرعة وجرت نحو المعبد، ولكن للأسف، بعد فوات الأوان)).

موروث الخوف

انتهت الحكاية في كتاب ((مارييت))، و ظللت بعد قراءتها أشعر بلذه الاكتشافات الأثرية الثمينة التي تغير مجرى نهر المعرفة، وتفتح له قناة فكر جديدة،
فاكتشاف أصل أسطورة ((أمنا الغولة)) التي كبرنا عليها وأصبحت جزءا من الشخصية المصرية لا يقدر بقيمة.
الغولةإذن ما هي إلا ((الوجه الشعبي)) للخلفية المصرية المعروفة في حضارتنا المصرية القديمة باسم الإلة ((سخمت))، تلك الإلهة ذات رأس الأسد التي يهابها  ويخشاها  كل من له علاقة بالحضارة المصرية القديمة، فنعتوها بأسماء قوية، مثل ((القادرة)) و((البعيدة)) و((ذات البطش و السلطان))، ورددوا الأوردة و الصلوات صباحا ومساء اتقاء لشرها، حيث كانت لديهم عقيدة بأن غضبها يجلب الشر ويهدر البشرية، حيث ربطوه بهبوب الرياح المحملة بالرمال من قحط   الصحراء على خضرة وادي النيل ومياهه، وبنقص مياه الفيضان الذي تسبب في أيام جفاف لأهل ((مصر))، وربطوه أيضا بانتشار الأوبئة والأمراض في قرى ونجوع الصعيد والدلتا.

مرت العقود والقرون متشبعة بالخوف والرهبة من هذا الوجه المخيف، وانزلقت النعوت المختلفة عبر قنوات الموروث الشعبي، وأخذت مكانها على الألسنة في هجاء من تتسم  من السيدات بالبطش والطغيان وتدبير المكائد، والطريف أن سيدات المجتمعات الريفية لا يزلن حتى يومنا هذا يحتفظن بتلك الكلمات للتعبير عن غضبهن تجاه الأخريات.
أما حكاية ((حسن)) الذي اختفى جسده تحت أنقاض الجدار الأثري المتصدع بجانب مقصورة ((سخمت)) فكانت مجرد مصادفة تعيسة نتجت عن تتبعه للمغامر الأجنبي وليس لها أي علاقة بالإلة ((سخمت))، ولكن المكان الذي وقعت فيه هذه الحادثة زاد الطين بلة، ومع موت ((حسن)) كتب تاريخ الأسطورة الشعبية شهادة ميلاد
((الغولة اللي بتاكل العيال)).








يعتقد الكثيرون أن الإلهة سخمت هي أصل الكثير 






من الأساطيرالمخيفة في الحضارة المصريةالقديمة                                                  

              
          أ.د.جيهان زكي
 رئيس الأكاديمية المصرية للفنون في روما  


ناشونال جوغرافيك للشباب
العدد: 112
سنة:2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق